قصص إسلامية
منذ سقوط الأندلس عام 1492ميلادية، وهجرة الأندلسيين إلى بلاد المغرب ومصر والشام وأقطار الدولة العثمانية، ومع هجمات الإسبان والبرتغاليين والقوى الصليبية، شهدت بدايات القرن السادس عشر تحولا كبيرا مع العثمانيين باعتبارهم أقوى الدول الإسلامية، حينذاك، لا سيما في عهدَيْ سليم الأول وسليمان القانوني.
إذ حمل السلطان العثماني لقب خادم الحرمين الشريفين، ولقب الخلافة، الأمر الذي أدرك معه المغاربة أن التطلع لهذه السلطنة الكبرى، أمر لا مفر منه، لدفع الإسبان والبرتغاليين ومظاهر الاستعمار عن بلاد المغرب العربي.
ثم سرعان ما توغل العثمانيون بطلب من الحفصيين حكام المغرب الأدنى، والزيانيين حكام المغرب الأوسط، فأقطعهم السلطان الحفصي مناطق حلق الوادي، وأرسل السلطان العثماني سليم الأول ميرا سنويا، وعتادا، وسِكة عملة عثمانية، ورأت المدن التونسية والجزائرية منذ ذلك التاريخ في الوجود التركي حصنا لهم، بعد أن كانوا قد اضطروا إلى دفع الجزية للإسبان بعد نكبة وهران سنة 1509، التي انتصر فيها الإسبان على بني زيّان حكام تلك المناطق، وأعلن السلطان الزياني أبو حمّو الثالث تبعيته، وخضوعه للسيادة الإسبانية.
وفي المغرب الأقصى، تعرّضت سواحله لغارة شرسة من البرتغاليين والإسبان، منذ مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، وقد بدأت تلك الغارات حين وقع نزاع بينهما حول ملكية جزر الكناري، التي اعتبرها كلٌّ من الطرفين نقطة انطلاق وتوسُّع في غرب أفريقيا.
ولأهمية هذه الجزر لم يشأ كلٌّ منهما التنازل عنها للآخر، وقد تدخلت الباباوية لحل هذا النزاع، وفي عام 1454 أعطى البابا نيقولا الخامس للبرتغاليين براءة تجعل "سبتة" والممتلكات الأخرى، التي احتلوها في غرب أفريقيا من نصيب التاج البرتغالي.
وحض البابا البرتغاليين والإسبان على عدم التواني عن حرب المسلمين، ولم تمضِ أعوام قليلة حتى احتل البرتغاليون مدينة "القصر الصغير" المغربية الواقعة على مضيق سبتة وطنجة في أكتوبر سنة 1458، وكان على رأس الحملة الملك البرتغالي ألفونسو الخامس، ثم لم يتوانَ البرتغاليون عن الهجوم على مدن أخرى تكلّلت باحتلالهم مدينة "أصيلا" في أغسطس1471، فقويت شوكتهم في شمال المغرب، وطمحوا في اتخاذ هذه المراكز الساحلية الشمالية للانطلاق إلى عمق البلاد واحتلالها.
كانت أكبر الفتن التي تعرّضت لها أقاليم وبلدان المغرب الأقصى الداخلية منذ نهايات عصر المرينيين، وخلفائهم الوطّاسيين حكام البلاد الجدد فيما بين عامَيْ 1472و1552، وتحت وطأة الاحتلال الأجنبي لسواحل البلاد الشمالية والغربية.
الأمر الذي أدّى إلى انتشار الفوضى والفتن وتجزئة المغرب إلى وحدات شبه مستقلة، بعضها أملتها ضرورة الجهاد ومقاتلة العدو المحتل.
وبسبب هذه الفتن والتفتُّت الداخلي، وعدم قدرة الوطّاسيين على حسم الأمور وقيادة البلاد أو مواجهة العدو بنجاح، فقد ظهر حينذاك اتجاهان؛ الأول يُمثِّله أصحاب المصالح الضيقة والشخصية في المناطق القريبة من العدو البرتغالي، الذين رأوا في الدخول في طاعته ومهادنته والتقرب منه مصلحة وضرورة، وقد أفاد المحتل ذلك.
واتجاه آخر من المؤمنين الشرفاء الذين آلمهم ما تصل إليه بلدانهم من الانحدار والتشتت والاحتلال، وقد تجلّت هذه الدعوة الجديدة في مناطق الجنوب المغربي في بلاد السوس، وقد رأت هذه الدعوة أن الموافقين بالحماية البرتغالية في حكم الخارجين عن الإسلام.
وبدأ رؤساء القبائل وكبار المشايخ والعلماء في البحث عن الشخصية الأقدر على تحمل مسؤولية الدفاع عن الإسلام، وصيانة التراب المغربي من حالة الانحطاط والتشرذم والاحتلال التي بلغتها آنذاك.
ولقد رأى وجوه القوم في مناطق السوس أن الأقدر على حمل تلك الأمانة وقيادة هذه المهمة رجل من أشراف الناس، هو الشيخ الشريف محمد بن عبدالرحمن الحسني الذي كان يسكن مع قومه في مناطق درعة ببلاد السوس، وقد اشتهر بسعة العلم و"التمسك بسيرة السلف الصالح من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، كما يصف الزياني في تاريخه "المغرب في دول المشرق والمغرب".
ومنذ عام 1510 بزغت الدولة السعدية، واستطاع السعديون القضاء على الحكم الوطاسي، ومقاومة النفوذ البرتغالي، واستعادة بعض حصونهم وموانئهم الشمالية مثل "سانتا كلوز"، وقد فتحوا ذراعيهم للعثمانيين جيرانهم في الجزائر وتلمسان للتعاون ضد المحتلين الإسبان والبرتغال، كما تمكَّنَوا من استعادة مدن أصيلا والقصر الكبير من الاحتلال البرتغالي وتوحيد أجزاء واسعة من المغرب الأقصى، بل توسعوا حتى تمكّنوا من السيطرة على فاس ذاتها في يناير1554.
كانت وفاة السلطان السعدي الثالث أبي محمد الغالب بالله عام 1574، وتولية ابنه المولى محمد المتوكل على الله بداية لدخول المغرب إلى مرحلة حاسمة من تاريخه، بموالاة الصليبيين.
لهذا شهدت سلطنة الغالب بالله أول التشققات الداخلية في البيت السعدي حين لجأ إخوته الثلاثة عبد المؤمن وعبد الملك وأحمد إلى العثمانيين طالبين منهم المساعدة لخلع أخيهم من العرش السعدي لتعاونه مع الإسبان والبرتغاليين، وعدم دخوله مع التحالف الإسلامي التركي، لكن السلطان الغالب تجاوز هذه المناورة بإقامة علاقات ديبلوماسية هادئة مع الدولة العثمانية، الأمر الذي هدّأ من حِدّة هذه التشققات، وجعل السلطان الغالب في موقف الممسك بمقاليد الأمور.
بيد أن وفاته وصعود ابنه المتوكل على الله، الذي اتخذ ستراتيجية والده في التقارب مع القوى الأوروبية، قد هيّج أعمامه لعودة الاتصال بالعثمانيين وحضهم على إزاحة هذا السلطان الجديد، بينما كان أتراك الجزائر وولاتها العثمانيون عازمين على الانتقام من المتوكل لتحالفه العلني مع الأوروبيين.
وبالفعل انطلق عبد الملك وأحمد المنصور وعبد المؤمن السعدي مع والي الجزائر العثماني نحو المغرب، وكانت القبائل والجموع المؤيدة لهم مستعدة لذلك التدخل، فلما اقتربت القوات من دخول فاس، انضم رئيس جند الأندلسيين في جيش المتوكل إلى عبد الملك والعثمانيين، وكان "جند الأندلسيين" من أهم الفِرَق وأكثرها قوة واستعدادا، وكثرة عددية وحرفية، غير أنهم كانوا يُكنّون الكراهية والحقد للسلطان الغالب وابنه المتوكل لتحالفهما وتعاونهما مع أعدائهم الأقدمين من الإسبان والبرتغاليين الذين طردوهم من ديارهم، حينها أدرك المتوكل أنه مهزوم لا محالة، واتخذ قراره بالفرار فهرب إلى مراكش، واستولى عبد الملك على مدينة فاس في ذي الحجة سنة 1576 ثم دانت مراكش العاصمة له من بعد، حيث تلقب بالمعتصم بالله السعدي.
لم يُعلن المتوكل الاستسلام الكامل، وطبقا لبعض المصادر التاريخية فإنه قد خاض ضد عمّيه 24 معركة خلال سنتين بعد خلعه انهزم فيها جميعا.
وفي النهاية أدرك أنه لن يجد الناصر ولا المعين لاستعادة عرشه السليب، ولأنه طالما تعاون ودخل في علاقات ديبلوماسية وتجارية ممتازة مع القوى النصرانية الإسبانية والبرتغالية التي تحتل بلدان وموانئ السواحل المغربية في الشمال فقد قرّر اللجوء إليهم، وطلب العون منهم.
وبالفعل انتقل محمد المتوكل السعدي لاجئا إلى مدينة طنجة التي كانت خاضعة للاحتلال البرتغالي من قبل تلك الأحداث بنصف قرن تقريبا، وطلب العون منهم، لكن المتوكل وقع بالفعل في فخ الخيانة حين شرط عليه البرتغاليون التنازل عن مدن الساحل المغربي كلها بعد استعادته لعرشه.
وفي ذلك يقول مؤرخ "تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية" إن البرتغاليين "قالوا لمولاي محمد نحن خارجون وأنت معنا، فإن ظفرنا بالبلاد فلا قسم لنا معك فيها إلا السواحل، وما دونها فهو لك، فأنعم لهم بذلك، وتعاهدوا عليه، فعند ذلك حلفوا لهم في صلبانهم، وحلف لهم هو على ما ذكر، وأخذوا في إقامة العمارة (الأسطول) والجيش ودفع المال وما يحتاجون إليه".
ولم تتحرك القوات البرتغالية بقيادة دون سباستيان إلا بعد احتلال مدينة "أصيلا"، بعدما سلّمها المتوكل لهم على طبق من ذهب، وبسبب ذلك ظهر المتوكل على الله أمام العلماء والعامة خائنا لوطنه ودينه، وأرسل إليه علماء المغرب رسالة شديدة اللهجة والحدّة يتهمونه فيها بالخيانة والكفر، والتحالف مع الأعداء.
وكانت نتيجة ذلك معركة وادي المخازن أو معركة الملوك الثلاثة، التي انتصر بها المسلمون، وأبادوا الجيش الإسباني والبرتغال عن بكرة أبيه،
ولهذه الملحمة الكبيرة قصة عجيبة أكملها لكم، باذن الله الأسبوع المقبل، وللحديث بقية.
إمام وخطيب
0 تعليق