في الواقع لن تحتاج إلى قياسات أو حسابات معقدة؛ فلكي تكشف المعاني الخفية للمدن الكبرى والعالمية حاول فقط أن تتجول في المكان، فإذا لاحظت أن الناس تتجه بأنظارها نحوك ثم يأتي أحدهم ليعزمك على العشاء أو الغداء فأنت في الحقيقة تتجول في قرية أو مدينة بسيطة حتى وإن كانت كبيرة المساحة.
أما إذا تجولت في منطقة ما ولم يهتم أحد بشأنك فأنت تعيش في مدينة كبرى أو ربما هي مدينة عالمية. هذه ليست مزحة، حيث توصف المدن الكبرى بكونها مدنا معقدة اجتماعيا؛ فكلما ازداد التعقيد الاجتماعي أصبحت المنطقة تميل لكونها مدينة عالمية؛ في حين توصف القرى أو المدن الصغيرة بأنها مناطق تضم مجتمعات بسيطة.
بحكم خبرتي في مجال التخطيط العمراني أستطيع أن أميز بين المدن الكبرى والصغيرة وحتى القرى من خلال عدة خصائص أهمها التعقيد الاجتماعي، والفرص الاقتصادية، والمنافسة الشرسة، وهي جوهر التطور وفقا للنظرية الداروينية.
لقد درس عالم الاجتماع الألماني Ferdinand Tönnies طبيعة النظام الاجتماعي للتميز بين المجتمع الجماعي Gemeinschaft والمجتمع التشاركي Gesellschaft. في المجتمعات الريفية والمدن الصغيرة يتميز المجتمع بالبساطة، وتحدد العلاقات بناء على قواعد اجتماعية عاطفية وتقليدية. وفي المقابل تعبر مجتمعات المدن الكبرى عن الإرادة العقلانية وتتلاشى الروابط التقليدية في بنية المجتمع لصالح الكفاءة والاعتبارات الاقتصادية. لذلك المدينة العالمية قادرة على جذب السكان والاستثمارات العابرة للقارات؛ في حين تعجز بعض المدن الصغيرة عن جذب مطعم عالمي واحد. الاستثمار والمنافسة على أشدهما في المدن الكبرى والعالمية، حيث القوة الشرائية العالية والطلب المتنامي.
المدينة المعقدة تمتاز بكونها تضم عرقيات متعددة وتنوعا اجتماعيا وقاعدة اقتصادية متنوعة. لقد تجاوزت المدن العالمية النطاق المحلي لكونها وفرت بيئة وتشريعات عمرانية وخدمات نوعية تكيفت مع التحولات الاقتصادية في نظام الإنتاج لتساهم في خلق فرص وظائف متنوعة.
وفي الجانب الآخر، اقتصرت المدن البسيطة أو القرى على شريحة اجتماعية واحدة قد تتكون من قبيلة واحدة أو بضعة قبائل أو مجتمع متجانس يعتمد على اقتصاد أحادي.
في المدن العالمية يتحدث السكان بلهجة عامة يفهمها الجميع، وربما يزداد التعقيد الاجتماعي ليضطر الجميع للتحدث معظم الوقت بلغة عالمية مشتركة؛ فإذا عادوا للمنزل تحدثوا بلهجتهم الأصيلة حيث مجتمع الأسرة البسيط. أما في المدن الصغيرة والقرى فالسكان يتحدثون باللهجة المحلية وهي غالبا اللهجة نفسها التي يتحدثون بها في المنزل مع أفراد أسرتهم.
ختاما، لقد أصبح التنوع الاجتماعي مطلبا استراتيجيا للتحول نحو العالمية، فالتنوع يخلق الفرص ويزيد من اكتساب المجتمع لخبرات جديدة تؤدي إلى التطور الاجتماعي. ولكن هذا التنوع يؤدي إلى صراعات حتمية تقود بعض المجتمعات إلى العزلة داخل نطاقاتها الاجتماعية، أو العرقية، أو القبلية؛ أو المذهبية ثم تنتهي بالتعايش والوئام؛ عندئذ تتجلى المدينة العالمية.
waleed_zm@
0 تعليق