الفكاهة كأداة تعليمية فعّالة
أظهرت دراسات عديدة أن استخدام الفكاهة في الفصول الدراسية يمكن أن يعزز من تفاعل الطلاب، ويقلل من التوتر، ويزيد من دافعية التعلم. فعندما يضفي المعلم جوا من المرح على الدرس، يشعر الطلاب براحة أكبر، مما يسهل عليهم استيعاب المفاهيم الجديدة. وقد أكدت دراسة نُشرت في مجلة «التنمية الإدارية» أن الفكاهة تُنتج فوائد نفسية وفسيولوجية تساعد الطلاب على التعلم، وتعزز من تفاعلهم مع المادة الدراسية.
من الأمثلة التاريخية التي تدعم هذا المفهوم، ما ورد عن الصحابي نعيمان بن عمرو الأنصاري، الذي كان معروفا بروح الدعابة والمرح. فقد رويت عنه نوادر عجيبة وغريبة، وكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يضحك منها ويقره عليها، مما يدل على أن استخدام الفكاهة كان وسيلة فعّالة للتواصل وتعزيز الروابط الاجتماعية في المجتمع الإسلامي الأول.
الفكاهة وسوء الفهم الثقافي
مع ذلك فإن استخدام الفكاهة في الفصول الدراسية، رغم كونه وسيلة فعّالة لبناء جو إيجابي ومريح، يتطلب حذرا بالغا ووعيا عميقا بالاختلافات الثقافية بين الطلاب. ففي فصول تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، نجد خليطا غنيا من الجنسيات والخلفيات الثقافية؛ من شرق آسيا إلى أوروبا الغربية، ومن أفريقيا إلى دول أمريكا اللاتينية، وكل منها يحمل معه منظومته الرمزية الخاصة، ونظرته إلى اللغة، والرمز، والدعابة.
ما قد يعتبر طريفا ومقبولا في ثقافة ما، قد ينظر إليه في ثقافة أخرى كإهانة أو تقليل من الاحترام. وأذكر هنا، في بدايات حياتي المهنية، حين كنت أدرّس في المعهد البريطاني في مصر، كان لدينا نص استماع يتضمن حوارا بين بائعة وزبون، حيث قال الزبون إنه لا يعرف مقاس زوجته، لكنها «سمينة مثلك».
لم أتوقع حينها أن يفهم الطلاب البريطانيون هذا التعبير على أنه نوع من السخرية الجارحة، فرفضوا إكمال الاستماع، وشعر بعضهم بالإهانة نيابة عن المرأة. كانت هذه الحادثة درسا مبكرا لا ينسى في أهمية فهم الخلفية الثقافية للطلاب عند اختيار المحتوى التعليمي أو التفاعل داخل الصف.
كما أذكر موقفا لأستاذ كان يدرّس موضوع الكوارث الطبيعية، فقال ممازحا «أريد أن أرسل زوجتي إلى هذه الدول ولا تعود.» رغم أن البعض ضحك، إلا أن البعض الآخر استشعر في كلامه تلميحا سلبيا تجاه المرأة، مما أثار ارتباكا غير مقصود.
مثل هذه المواقف تبين أن الدعابة ليست دائما «لغة عالمية» كما يقال، بل إنها مشروطة بثقافة السياق، وبما تحمله الكلمات من معانٍ تتغير من مكان إلى آخر. والفكاهة عندما تتصل بموضوعات حساسة كالجسد، أو الزوج، أو الحماة، أو المعلم، يجب أن تستخدم بحذر كبير. الخط الرفيع بين النكتة اللطيفة والسخرية المؤذية قد يؤدي إلى سوء فهم، أو حتى نفور من الأستاذ وفقدان الثقة في الصف.
وليس المعلم وحده من يتحمل عبء الوعي الثقافي، بل إن من المهم أن يتعلم الطلاب أنفسهم عناصر من الثقافة العربية، وما الذي يعتبر مقبولا أو غير مقبول في سياق التواصل داخل الصف. احترام الثقافة التي يتعلم الطالب لغتها هو جزء لا يتجزأ من احترام اللغة ذاتها. فقد أخبرني زميل ذات يوم أن إحدى طالباته، أثناء تقديمها لعرض شفهي حول وصف الشخصيات، قالت عن الأستاذ «أنا أحترمه كثيرا، لكنه مجنون قليلا!» - كانت تقصد أنه مضحك أو مرح - لكن استخدامها لكلمة «مجنون» أثار الدهشة والاستياء، لأنها لم تدرك أن العلاقة في الثقافة العربية بين الأستاذ والطالب لا تعبّر بهذه الطريقة، مهما كانت نوايا الطالب حسنة. هناك هرمية تراتبية تُعلي من مكانة المعلم، وينظر إلى مثل هذه العبارات على أنها خروج عن الاحترام الواجب.
إن تدريس اللغة لا ينفصل عن تدريس الثقافة، كما أن تعلم اللغة لا يتحقق دون احترام سياقها الاجتماعي والثقافي. وبين هذا وذاك تبقى الفكاهة فنا دقيقا لا يتقنه إلا المعلم الواعي، الذي يبتسم بحب، ويمازح بحكمة، ويضحك وهو يفتح باب الفهم لا باب الالتباس.
وفي زحام الجداول، وتعدد المناهج، وتفاوت مستويات الطلاب، تبقى الابتسامة الصادقة، والدعابة الذكية، من أنجع ما يربط القلوب بالعقول، ويبقي أثر المعلم حيا بعد انطفاء السبورة. فالفكاهة ليست ترفا تربويا، بل وسيلة إنسانية تجعل من اللغة حياة، وتجعل من الدرس ذاكرة.
وقد عبر الفيلسوف الأمريكي «جون ديوي» عن ذلك بقوله:
«ما نُعلّمه اليوم بروح من الفرح، يظل محفورا في الذاكرة أكثر من ألف تمرين جاف».
وما بين ضحكة صادقة ومعلومة راسخة، تنمو اللغة، وتزدهر الفصول، ويولد في قلوب الطلاب حب لا يُنسى... للغة... ولمن علمهم إياها.
0 تعليق