التعليم للوظيفة وللحياة

جريدة عكاظ 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تبذلُ الحكوماتُ بسخاء على التعليم والصحة، لإدراكها أن خير من يضطلع ببناء الدول، ويحرص على التقدم بها هم (المؤهلون تعليماً والجيّدون صحّياً)، ويلفتني قول الحق تبارك وتعالى (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) إلى التفكر في قسمة هذا القليل؛ بين الأمم والشعوب والحضارات ويبعث على التساؤل عن نصيب أوفر الدول الفاعلة علمياً وصناعياً واقتصادياً، (من هذا القليل) وعن كِفل بعض الدول الأقلّ حظاً، إذ لا يمكن القول بأن الجميع متساوون، في الأخذ من (قليلاً) بل هم حتماً متفاوتون، فهناك من حاز ولا يزال يحوز الأكثر من القليل، وهناك من اكتفى بأقلّ القليل، وكبّر المخدّة؛ باعتبار أنّ الله يسخّر قوماً لخدمة أقوام!!

وكلما استعدتُ مع أجيال الستينيات والسبعينيات مسيرة تعليمنا، يؤكدون على أن أعداد المدارس كانت تزيد ولا تنقص، ولا يكاد يمر عام إلا والبشائر تهلّ بافتتاح مدارس بنين أوّلاً، ثم بنات لاحقاً، ثم معاهد، ثم كُليّات، ثم جامعات، ولم تبق قرية ولا هجرة إلا وخُدمت تعليمياً. وكان المواطنون يتنافسون في مطالبتهم بالمدارس، ومراجعة جهات الاختصاص لكسب المزيد من المراحل الدراسية.

ومما يحزّ في النفس أن نسمع اليوم عن إغلاق وضمّ مدارس، وفروع جامعات وكليات في محافظات، علماً بأن عدد الطلاب والطالبات في تزايد، والمسافات والمناخات تحتّم توفير التعليم في جغرافيا آمنة وقريبة من سكن الطلاب؛ وإذا ما سلّمنا بنقص الأعداد، فالتربويون يؤكدون أنه كلما نقص العدد في الفصل أو القاعة كانت المخرجات أقوى وأجود فهي ميزة من المزايا!!

بالطبع، لا أشكك ولا أقبل التشكيك في النيات الطيّبة لمسؤول معروف بنزاهته ومنجزاته، إلا أننا تربينا على ثقافة «استثمر في أولادك ولا تستثمر لهم»، وكان الملك عبدالعزيز، طيّب الله ثراه، يجمع المواطنين في هِجر لينشئ لهم المدارس، إذ كان رهانه على التعليم مُبكّراً؛ وهذا شأن قيادتنا في هذه المرحلة، التي لا تدّخر وسعاً في تبوئها مراكز عليا بين دول العشرين، كما هو شأنها دوماً.

ومن يعرف جغرافية بعض المناطق يستغرب إغلاق فروع جامعات بدعوى الترشيد والتقشف، فالطلاب والطالبات الذين يصعدون من تهم إلى سراة من خلال عقاب تدوّخ الرأس، وتحبس الأنفاس، لا يمكنهم أن يصلوا للقاعات والفصول وهم جميعاً على مستوى جيّد من الانتباه والحرص، وفي مواسم الشتاء تحل ساعات مربكة، ولا تنقطع اتصالات الأمهات والآباء بهم وبهنّ (وصلتم، نزلتم) وغيرها من مصطلحات القلق التي لا يعي كنهها إلا من اصطلى بنيران الانتظار المشبوبة بوقود مشاعر قلق الوالدين على فلذات الأكباد.

ولربما ارتكن بعض المسؤولين إلى الصمت، إيثاراً للسلامة، كونه يتحرّج من إبداء وجهات نظر الأهالي، خشية إغضاب مسؤول أعلى، علماً بأن المسؤولين خارج منطقتك لا يتصورون واقعك التعليمي، وليس المطلوب من مسؤول تعليمي وتربوي أن يقتصر دوره عندما يتم استمزاج رأيه في قرار أن يوافق على القرار وفق طريقة (سمّ، تمّ) فهناك وجهات نظر ميدان تربوي، يتكوّن من مشرفين ومعلمين وإداريين وأيضاً متخصصين محايدين، فلو قال قائل أعطوني فرصة أطرح الموضوع على الزملاء؛ ونتناقش ونبدي لكم وجهة نظرنا، فلن يلحقه عتب ولا لوم، ويظل وجهه أبيض.

وفي زمن ما قبل الطفرة والصحوة كانت حياتنا الاجتماعية تفرض علينا مشاركة أهلنا في نشاط يومي؛ منه الرعي والزرع والاحتطاب، والبيع والشراء، وهذه المهارات الموازية للنظري المدرسي تخلق شخصيّة الطالب، وتعضّد جانب الاعتماد على النفس، وكان الأساتذة في زمننا أهل حرفة وصنعة ومهنة، ويتقنون فنوناً حياتية لا حصر لها، كونهم ينتمون لمجتمع الإنتاج، ويفرحون بالطالب المهاري، ويكلفونه بأعمال وأنشطة، مع التوجيه والتعديل، ويرفعون بها لإدارة التعليم مفاخرين؛ ومنهم تعلمت الأجيال معلومات، ومهارات حياة، وثقافة؛ عبر ما يروونه من قصص، وما يرددون من شعر، وحكم وأمثال، فالتعليم سابقاً لم يكن موجهاً للوظيفة فقط، بل كان للحياة وبناء شخصية قوية.

وجدتُ مقولةً ربما تكون للكاتب سلامة موسى مفادها «الدول الكبرى تخشى وتحترم دولةً نجحت في تعليمها وصناعاتها»، ومن المؤسف أن تظلّ أعداد من الخريجين والخريجات في البيوت منتظرين التعيين في وظيفة، وربما أن المهارات التي توفرت لمن سبقهم لم تتوفر لهم، بحكم أن المدرسة استمرت في أداء دور تقليدي بحكم جلب التجارب، فيما الأسرة المنتجة قبل أربعة عقود ارتقت إلى مستوى معيشي يقارب أحيانا الترف، واعتمدت الكماليات، وحلّت محل المنجز والأداء ثقافة الاقتناء ولو بتحميل الدخل الأسري فوق طاقته من الديون والعناء.

ولا خلاف على أن المهارات الحياتية تُكسب من يُتقِنُها قِيَماً وسلوكاً حضارياً، لأن الشخصية المهارية واثقة من نفسها، وليست مهزوزة ولا رخوة، وربما كان تعليمنا حالياً مُؤهِلاً للوظيفة؛ لكني أشك في كونه كافياً للحياة بكل تفاصيلها المهارية الاقتصادية والاجتماعية.

وأتصوّر أن الدولة تترقب مخرجات تعليم تفخر بها، شأن النخب الذين فازوا بالجوائز العالمية، ولا يزالون يبهجوننا بالميداليات الذهبية؛ منافسين طلاباً وطالبات ربما ليسوا أفضل منّا في شيء سوى طرق التدريس والتعليم والمدارس الجاذبة. والأمل اليوم كبير بأن تكون المدارس زاخرة بالمهارات التي توفر الكسب، إن لم تتوفر وظيفة، فنحن بحاجة إلى المزيد من المهارات للحياة والعمل؛ ولا أستبعد أنها مُفعّلة؛ وتتنامى وتتراكم بحول الله، لأننا في طريق العودة لمجتمعات الإنتاج، وطي صفحة الزمن الاستهلاكي؛ وإن كان محسوباً من عُمرنا.

تلويحة: من شحّ في الإنفاق على تعليم نفسه، ظلّ يدفع ثمن جهله طيلة حياته.

أخبار ذات صلة

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق