استعادت «بلد النيلين» هذا العام مظاهر الفرحة والاحتفالات بعيد الفطر المبارك، حيث تزامن ذلك مع عودة نسبية للاستقرار بعد النزاعات الأخيرة، التي حرمت أهل السودان من فرحة العيد على مدار عامين.
وأكد السودانيون خلال العيد هذا العام قدرتهم على تجاوز التحديات والنهوض بقوة حتى في ظل أصعب الظروف. وعيد الفطر في السودان يحمل طابعًا خاصًا يعكس التنوع الثقافي والاجتماعي للبلاد، ويمتزج فيه التراث الإسلامي مع العادات المحلية التي تطورت عبر التاريخ.
وحرص السودانيون، أمس، على العودة إلى مرونتهم المعهودة في الاحتفال رغم الظروف التي تمر بها البلاد، وتميزت الاحتفالات بالجمع بين التقاليد العريقة والأمل في استعادة الحياة الطبيعية، وبدأت بإقامة صلاة العيد في الساحات أعقبها تبادل الزيارات، وتحضير الأطعمة التقليدية.
ويستعد السودانيون في العادة لاستقبال عيد الفطر من منتصف شهر رمضان المبارك، وتهتم الأسر بتنظيف المنازل وتزيينها، وشراء الملابس الجديدة للأطفال والكبار على حد سواء، وهي عادة راسخة تعكس الفرحة بالمناسبة.
وبعد سنوات من التحديات والمعاناة، انتعشت الأسواق وتوافد الناس لشراء مستلزمات العيد مثل الدقيق لتحضير الكعك، والحلويات المتنوعة، واللحوم، إلى جانب مواد الزينة والدهانات لتجديد البيوت.
التكبيرات تعود مع عودة نازحين إلى مناطقهم
بدأت مظاهر الاحتفالات بأداء صلاة العيد في عدد من الساحات العامة الكبيرة وبالقرب من المساجد.
وفي مدن مثل الخرطوم، وأم درمان، وبحري، اجتمع الناس بالملابس التقليدية كالجلابية للرجال والثوب السوداني للنساء، وتعالت التكبيرات والتهليلات، وذلك بالتزامن مع عودة بعض السكان إلى مناطقهم بعد تحسن الأوضاع الأمنية في أجزاء من البلاد.
وبعد الصلاة تتواصل الاحتفالات بتناول وجبة الإفطار والتي تكون غنية بأطباق تقليدية تعكس كرم الضيافة، منها «العصيدة» وهو طبق شعبي مصنوع من الذرة، ويُقدم عادةً مع المرق أو الملاح، وطبق «الكعك والحلويات» الذي تُعده النساء من كعك العيد والغريبة بأنواعها، وتُوزع على الضيوف والجيران.
ومن الوجبات التقليدية الخفيفة وجبة «الفول السوداني» التي تُقدم مع الشاي، أما «الكركدي» و»العرقسوس»، فهي مشروبات تُضفي نكهة مميزة على الاحتفال.
وبسبب الظروف التي تمر بها البلاد حاليا لجأ البعض إلى تبسيط الأطباق، ولكن الروح الجماعية للتشارك بقيت حاضرة.
وعقب الإفطار تبدأ الزيارات العائلية والاجتماعية، وهي من أهم مظاهر العيد في هذا البلد المميز، حيث يحرص الجميع على زيارة الأقارب والجيران، وتبادل التهاني بعبارات مثل «عيدكم مبارك» و»كل عام وأنتم بخير»، ويرتدي الأطفال ملابسهم الجديدة ويتلقون «العيدية».
ومظاهر التكافل الاجتماعي تكون مستمرة في العيد، وتُوزع المساعدات والطعام على الأسر المحتاجة، خاصة مع تحديد زكاة الفطر هذا العام بـ7200 جنيه سوداني للفرد، كما أعلن مجمع الفقه الإسلامي.
وهذا العام عادت مظاهر العيد بشكل لافت في المدن الكبيرة مثل الخرطوم، وذلك بعد عامين من تراجعها بسبب الحرب.
وتزينت شوارع العاصمة والمدن الأخرى بأشكال مختلفة من الزينة التي تعبر عن الفرحة بالعيد، وانتشرت أكشاك بيع الأطعمة والحلويات.
وأثبت السودانيون قدرتهم على النهوض رغم التحديات، فأقاموا عروضا موسيقية ورقصات شعبية تمتد حتى الليل في بعض المناطق.
وفي القرى، ركز الاحتفال على التجمعات العائلية ومشاركة الطعام في أجواء أكثر بساطة.
عيد مختلف مع بسط الجيش سيطرته
عيد الفطر هذا العام حمل طابعاً خاصاً، بالنظر إلى الوضع خلال السنوات الأخيرة، فالجيش السوداني استطاع قبل فترة وجيزة من هذه المناسبة بسط سيطرته على أجزاء واسعة من البلاد، وعاد بعض النازحين إلى ديارهم، مما أعاد الحياة للأسواق والشوارع.
ولكن في مناطق لا تزال تعاني من الدمار، مثل أجزاء من الخرطوم، قد تكون الاحتفالات أقل بهجة، مع تركيز الأسر على لملمة جراح الحرب.
والسودان هي «أرض التنوع» نظرا لتنوعها الثقافي والعرقي الكبير، حيث يضم العديد من القبائل واللغات، وهي «بلد النيلين» نسبة إلى نهر النيل الذي يتفرع في السودان إلى النيل الأبيض والنيل الأزرق، ويلتقيان في العاصمة الخرطوم.
مناسبة وطنية تعكس الهوية السودانية
عيد الفطر يعد مناسبة وطنية تعكس الهوية السودانية، وذلك منذ استقلالها عام 1956، فهو ليس مجرد احتفال ديني، بل هو مناسبة للتسامح والمصالحة، حيث يحرص السودانيون على تصفية الخلافات وتعزيز الوحدة بين المجتمعات المختلفة، مما يعكس روح «أرض التنوع» التي تميز السودان تاريخيًا وحاضرًا.
ويعود تاريخ الاحتفال بعيد الفطر إلى دخول الإسلام إلى المنطقة في القرن السابع الميلادي، مع انتشار الدين عبر التجار والدعاة القادمين من شبه الجزيرة العربية وشمال أفريقيا، خاصة بعد سقوط الممالك النوبية مثل مملكة المقرة وعلوه.
ومع تأسيس سلطنة الفونج الإسلامية (1504- 1821)، أصبح الإسلام الدين الرسمي في السودان، ومعها بدأت الاحتفالات الدينية مثل عيد الفطر تأخذ مكانة بارزة. وكانت السلطنة تركز على توحيد القبائل المختلفة تحت راية الإسلام، مما جعل الأعياد الدينية فرصة لتعزيز الروابط الاجتماعية. وخلال فترة الحكم التركي- المصري (1821- 1885)، أُدخلت بعض العادات الاحتفالية الرسمية مثل المدفع الذي يعلن انتهاء رمضان وبداية العيد، وهو تقليد لا يزال موجودًا حتى اليوم في بعض المناطق. وفي فترة المهدية (1885- 1898)، ركزت الدولة على الجانب الروحي للعيد، مع التأكيد على الصلاة والتضامن الاجتماعي، بينما أضاف الحكم البريطاني- المصري (1899- 1956) لمسات تنظيمية مثل العطلات الرسمية والاحتفالات العامة.
0 تعليق